بقلم المحامي زكريا الغول
منذ سنوات طويلة يعيش لبنان على إيقاع الأزمات، من أزمة الكهرباء إلى أزمة النفايات، من الانهيار المالي إلى الشلل السياسي. لكن خلف كل هذه العناوين الكبيرة، هناك كلمة واحدة تختصر جوهر المأساة اللبنانية: الثقة. فالمشكلة الأعمق ليست فقط في الفساد أو الطائفية أو التدخّلات الخارجية، بل في انهيار منظومة الثقة على ثلاثة مستويات: بين اللبنانيين أنفسهم، بين الشعب ودولته، وبين السلطة اللبنانية والمجتمع الدولي.
منذ نشأة لبنان الحديث، بُني النظام على مبدأ المحاصصة الطائفية. قدّم هذا النظام في بداياته نوعاً من التوازن، لكنه مع مرور الوقت تحوّل إلى قيد خانق على المجتمع. فاللبناني لا يرى في المواطن الآخر شريكاً في الوطن، بل ممثلاً لطائفة أو حزب قد يشكّل تهديداً له. كل طائفة تتمترس خلف زعيمها، وتتعامل مع الدولة كغنيمة تُقتسم لا كإطار جامع.
هذا الواقع زرع شعوراً عميقاً بعدم الثقة بين المكونات. الحرب الأهلية (1975–1990) عمّقت الجروح، والصلح الذي تلاها لم يُبنَ على مصارحة أو مصالحة حقيقية. ما زالت ذكريات الحرب، والتهجير، والقتل على الهوية، حاضرة في الذاكرة الجماعية. ولهذا فإن أي أزمة سياسية أو اقتصادية تعيد إحياء المخاوف القديمة وتدفع كل طائفة إلى التشكيك في نوايا الأخرى.
كيف يمكن لمجتمع أن ينهض إذا كان أبناؤه يشكّون ببعضهم البعض؟ وكيف يمكن بناء دولة إذا كان الولاء للطائفة أو الحزب يسبق الولاء للوطن؟ هذه أسئلة جوهرية تطرح نفسها يومياً في أدبيات لبنان ومداولات اللبنانيين.
إذا تم توجيه سؤال لأي مواطن لبناني عن الدولة، ستسمع كلمات مثل: «فاشلة»، «فاسدة»، «غائبة». الدولة بالنسبة إلى اللبنانيين ليست مؤسسة راعية، بل جهاز مثقل بالفساد والمحسوبية. الخدمات الأساسية مثل الكهرباء والمياه والطرقات ما زالت عالقة منذ عقود. الأزمة المالية عام 2019 دمّرت ما تبقّى من ثقة الناس بالمؤسسات: ودائع تبخّرت، عملة انهارت، بطالة تضاعفت.
في كل مرة يخرج مسؤول ليتحدث عن «خطة إصلاح»، يواجهه المواطنون بسخرية مرة: «إصلاح؟ من نفس الذين دمّروا البلد؟». هذه الفجوة النفسية العميقة بين الشعب والدولة جعلت اللبناني يعيش عقلية «النجاة الفردية». الكل يبحث عن حلول خاصة: من المولد الكهربائي إلى الهجرة. لم يعد أحد يراهن على الدولة.
غياب الثقة جعل أي قرار حكومي يواجه بالريبة. حتى القرارات الصحيحة أو الضرورية لا تلقى قبولاً، لأن الناس فقدوا اليقين بأن السلطة تعمل لمصلحتهم. بهذا المعنى، فإن أكبر خسارة للبنان ليست أمواله فقط، بل فقدان الرابط الأساسي بين المواطن والدولة: الثقة.
لبنان تاريخياً بلد يحتاج إلى شبكة دعم خارجية، سواء عبر المساعدات أو الاستثمارات أو حتى الودائع. لكن بعد الانهيار المالي والسياسي الأخير، تراجعت صورة لبنان بشدّة. الدول المانحة وصناديق التمويل الدولية فقدت ثقتها بالسلطة اللبنانية، التي تبدو عاجزة عن تنفيذ أبسط الإصلاحات.
مؤتمرات دعم انعقدت أكثر من مرة، لكن الأموال الموعودة غالباً لا تصل بسبب غياب الضمانات. المجتمع الدولي يقول بوضوح: «أصلحوا أولاً، نحضر لاحقاً». والحكومات المتعاقبة كانت تمضي في لعبة المماطلة والانقسامات وكأن الوقت ملكها.
هذا الوضع جعل لبنان محاصراً: الداخل لا يثق بالخارج، والخارج لا يثق بالداخل. وهكذا تتسع الهوة أكثر فأكثر.
إذا كان جوهر أزمة لبنان هو الثقة، فإن الحل يبدأ من هنا. لا يمكن بناء بلد من دون إعادة ترميم هذه الثقة المكسورة. لكن كيف؟
• على مستوى المجتمع: المطلوب مصالحة حقيقية بين المكونات، مبنية على الاعتراف بالآخر كمواطن لا كخصم.
• على مستوى الدولة: المطلوب إصلاح فعلي، شفاف وملموس، يعيد للمواطن شعوراً بأن هناك مؤسسات تخدمه لا تستغلّه.
• على مستوى الخارج: المطلوب أن تقدم السلطة اللبنانية إشارات جديّة على التغيير، لا وعوداً فارغة.
الثقة لا تُبنى ببيانات سياسية ولا بخطب طنانة، بل بأفعال صغيرة متراكمة: قضاء مستقل، محاسبة فعلية، خدمات عامة منتظمة.
لبنان لا ينقصه الذكاء ولا المبادرات الفردية ولا الإمكانات البشرية. ما ينقصه هو الرابط الذي يجمع كل ذلك في مشروع وطني جامع: الثقة. بدونها سيبقى كل إنجاز فردي هشّاً، وكل محاولة إصلاح ناقصة، وكل دعم خارجي مشروطاً.
الأزمة اللبنانية ليست قدَراً محتوماً. لكنها لن تجد حلّاً طالما بقيت الثقة كلمة مفقودة من القاموس السياسي والاجتماعي. استعادتها أصعب من إعادة إعمار المرفأ أو إصلاح الكهرباء، لكنها الشرط الأول لأي نهوض حقيقي.