بقلم: د. علا الصيداني
تُبرز دراسة تحليلية حديثة أن إدارة الدين العام في دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لا تنفصل عن فعالية المؤسسات العامة ووقدراتها الاستيعابية لكفاءة توظيف المساعدات الدولية. فمن خلال تسليط الضوء على البُنى الحوكمية، وخصوصاً الأبعاد الرقمية منها، تتضح أهمية هذه المؤسسات في تقليص الهشاشة المالية، وتحويل تدفّقات المساعدات إلى أدوات فاعلة للنمو المستدام بدلاً من دورات مفرغة من الاعتماد المتكرر على الاقتراض.
تُثبت نتائج الدراسة أن ضعف الهياكل المؤسسية لا ينعكس فقط في ارتفاع مستويات الدين، بل يُعمّق العجز في توجيه الموارد العامة، ويعزز آليات الفساد وسوء الإدارة. ومن اللافت أن بعض الدول ذات السمعة المؤسسية القوية تستفيد من قدرتها على الاقتراض بشروط تفضيلية، لكنها تحتاج دوماً إلى الموازنة بين هذا الامتياز والانضباط المالي المطلوب. كما تُعد الرقمنة الحكومية عاملاً حاسماً، لما تُتيحه من شفافية ومساءلة وتتبّع أفضل لإدارة الدين العام، مما يجعلها أداة استراتيجية لا غنى عنها في بنية الحوكمة الحديثة.
أبرز ما جاءت به هذه الدراسة هو ابتكار مؤشر تركيبي يقيس القدرة المؤسسية على استيعاب المساعدات، عبر دمج جودة المؤسسات مع عناصر سياقية مثل الرأس المال البشري، والبنية التحتية، والخدمات الرقمية. ويبرهن المؤشر أن هذه القدرة لا ترتبط فقط بمستوى الحوكمة التقليدي، بل تمتلك فعالية تصحيحية حتى في بيئات تعاني من ضعف مزمن في المؤسسات. ففي السياقات التي تتسم بضعف الحوكمة، تُظهر الدراسة أن بناء قدرات مؤسسية مكمّلة – مثل المهارات التقنية، وتوافر الكهرباء، والرقمنة الحكومية – يمكن أن يُخفف بشكل ملموس من عبء الدين العام. هذا يعيد صياغة النظرة إلى الإصلاح المؤسسي ليس كغاية مستقلة، بل كرافعة فعلية لسياسات الاستقرار المالي.
تُظهر التحليلات أيضاً أن القدرة على الصمود في مواجهة الأزمات المالية تعتمد بشكل كبير على عوامل مؤسسية وتنظيمية. ففي ظروف عدم الاستقرار – سواء الناتجة عن نزاعات أو أزمات طارئة – يؤدي غياب التخطيط المالي السليم إلى تسارع تراكم الديون. لذلك، فإن تعزيز الحوكمة خلال الفترات المستقرة يُعد استثماراً وقائياً ضرورياً لمواجهة الصدمات المستقبلية.
وتوصي الدراسة بتبنّي استراتيجيات متكاملة لإدارة الدين، تُركز على تنويع مصادر التمويل، وتوجيه الموارد نحو قطاعات إنتاجية، بما يتماشى مع نماذج ناجحة من تجارب آسيوية وأمريكية لاتينية. كما يجب تفعيل إصلاحات مؤسسية شاملة تشمل التشريعات المالية، وتعزيز الشفافية من خلال الأدوات الرقمية، إلى جانب إنشاء وحدات متخصصة في إدارة الدين العام.
وبخصوص النفقات الدفاعية، توصي الدراسة بإعادة النظر في أولويات التمويل العسكري، وتحفيز الاستثمارات الدفاعية ذات الطابع المدني – كالأمن السيبراني – بما يُحقق توازناً بين متطلبات الأمن والاستدامة الاقتصادية. أما في ملف التضخم، فثمة حاجة لتنسيق أكثر دقة بين السياسات النقدية والمالية، وتعزيز استقلالية البنوك المركزية، وتوسيع الاقتراض بالعملة المحلية كوسيلة لتقليل التعرض لمخاطر الديون الأجنبية.
وفي ما يخص المساعدات، توصي الدراسة بمواءمة هذه التدفقات مع أولويات الإنفاق التنموي الوطني، مع رفع معايير المشروطية التي تُفضي إلى تحسّن فعلي في الأداء المؤسسي، مما يُمكّن الدول تدريجياً من تقليص اعتمادها على التمويل الخارجي.
أخيراً، ترى الدراسة أن بناء الاحتياطيات خلال الفترات المستقرة، واعتماد خطط لإعادة هيكلة الدين في أوقات الأزمات، يمثلان حجر الأساس لسياسات مرنة ومستدامة. كما أن الاستثمار في الكوادر العامة، وتطوير الأنظمة الرقمية، يعززان قدرة المؤسسات على مواجهة التحديات المالية والبنيوية في آن.
إن هذه الدراسة تُعيد التأكيد على أن استدامة الدين لا تُبنى فقط على أرقام الموازنات، بل على عمق الجاهزية المؤسسية. فبدون مؤسسات قوية، فإن كل سياسة اقتصادية مهما كانت محكمة، تبقى عُرضة للانهيار.