-A
+A

قرن من الصراع الجيوسياسي في الشرق الأوسط

Business Echoes website logo
 قرن من الصراع الجيوسياسي في الشرق الأوسط
بقلم المحامي زكريا الغول - محامٍ – دكتور في التاريخ السياسي والعلاقات الدولية
شهد الشرق الأوسط على مدار القرن الماضي تحولات جذرية وصراعات مستمرة شكّلت جوهر السياسة الإقليمية والدولية في المنطقة. منذ نهاية الحرب العالمية الأولى وحتى حرب غزة الحالية، تعرضت المنطقة لسلسلة من التدخلات الخارجية، والصراعات الداخلية، والنزاعات التي تسببت في تغييرات جذرية في خرائط الدول وسياساتها. تتجاوز أهمية الشرق الأوسط كونه مركزاً اقتصادياً بسبب موارده النفطية، إلى اعتباره ساحة معركة جيوسياسية نتيجة موقعه الاستراتيجي ومكانته الدينية والثقافية.

بداية القرن العشرين كانت نقطة تحوّل هامة في تاريخ الشرق الأوسط، إذ تزامنت مع تفكك الإمبراطورية العثمانية التي كانت تسيطر على أجزاء واسعة من المنطقة. كانت الحرب العالمية الأولى (1914-1918) محورية في هذه العملية، حيث تسببت هزيمة الدولة العثمانية في تقسيم أراضيها بين القوى الغربية، خاصة بريطانيا وفرنسا، وفقاً لاتفاقية سايكس-بيكو لعام 1916. هذه الاتفاقية شكّلت الأساس لترسيم الحدود الحديثة لدول الشرق الأوسط.

نتيجة لهذه الاتفاقية، تم إنشاء دول جديدة مثل العراق، وسوريا، ولبنان، وفلسطين تحت الانتداب البريطاني أو الفرنسي. أثارت هذه التغييرات الاستعمارية توترات داخلية وخارجية، حيث كانت الشعوب العربية تطمح إلى الاستقلال والتحرر من السيطرة الأجنبية، بينما كانت القوى الغربية تسعى للسيطرة على موارد المنطقة وضمان نفوذها الاستراتيجي.

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وقيام دولة إسرائيل في عام 1948، بدأ أحد أبرز الصراعات الجيوسياسية في الشرق الأوسط. تأسيس إسرائيل أدّى إلى نزاع طويل الأمد مع الفلسطينيين والدول العربية المجاورة، ولا يزال حتى اليوم يمثل أحد أهم عوامل عدم الاستقرار في المنطقة. كان لهذا الصراع تأثيرات كبيرة على السياسة الدولية، حيث دعمت القوى الغربية إسرائيل، بينما دعمت الدول العربية وحلفائها حقوق الفلسطينيين.

حروب عدة اندلعت بين العرب وإسرائيل، أبرزها حرب 1948 التي أعقبت إعلان دولة إسرائيل، وحرب 1967 التي نتجت عنها خسائر كبيرة للأراضي العربية مثل الضفة الغربية وقطاع غزة وشبه جزيرة سيناء ومرتفعات الجولان وحرب العام 1973 التي أعادت نوع من التوازن العربي مع إسرائيل والذي أدّى الى تحرير الأراضي المصرية المحتلة، هذا النزاع المستمر أدّى إلى تكوين تحالفات إقليمية ودولية معقّدة، كما ساهم في تدخّل العديد من القوى الخارجية في شؤون المنطقة.

في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وخلال الحرب الباردة (1947-1991)، أصبح الشرق الأوسط ساحة لتنافس القوى العظمى، الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. كلتا القوتين كانتا تسعيان للسيطرة على النفوذ في المنطقة بسبب أهميتها الجيوسياسية والاقتصادية. في هذا السياق، دعمت الولايات المتحدة الأنظمة المحافظة والمناهضة للشيوعية مثل المملكة العربية السعودية وإيران تحت حكم الشاه، بينما قدم الاتحاد السوفييتي الدعم لدول وحركات ذات ميول اشتراكية مثل مصر تحت قيادة جمال عبد الناصر وسوريا.

شهدت هذه الفترة تدخلات عسكرية متكررة، مثل دعم الولايات المتحدة للانقلابات أو التدخلات المباشرة كما حدث في إيران عام 1953 والعراق لاحقاً، بالإضافة إلى دعم الاتحاد السوفييتي لحلفائه في الحروب والصراعات الإقليمية. أثّرت هذه المنافسة على استقرار المنطقة وزادت من التوترات بين الدول، وأدّت إلى تصعيد النزاعات في عدة محاور، بما في ذلك الصراع العربي - الإسرائيلي والحروب في اليمن والجزائر.

التحولات الجذرية في النظام السياسي الإيراني مع قيام الثورة الإسلامية عام 1979 كانت نقطة تحوّل كبرى أخرى في تاريخ الشرق الأوسط. الإطاحة بحكومة الشاه المدعومة من الغرب وتأسيس الجمهورية الإسلامية أدّى إلى تغيّر ميزان القوى في المنطقة. من ناحية، سعت إيران إلى نشر نموذجها الإسلامي السياسي في العالم الإسلامي، عن طريق محاولة تصدير الثورة الى الدول العربية مما أدّى إلى توتر العلاقات مع الدول العربية المحافظة، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية.

أدّى هذا التوتر إلى اندلاع الحرب العراقية - الإيرانية (1980-1988)، والتي كانت واحدة من أطول الحروب في القرن العشرين. دعمت عدة دول غربية وعربية، بما في ذلك الولايات المتحدة والسعودية، العراق بقيادة صدام حسين في مواجهة إيران. كانت لهذه الحرب آثار مدمرة على كلا البلدين والمنطقة ككل، حيث أسفرت عن مقتل مئات الآلاف واستنزاف اقتصادي ضخم.

تلا الحرب العراقية - الإيرانية غزو العراق للكويت في عام 1990، وهو الحدث الجيوسياسي الذي أدّى إلى تشكيل تحالف دولي أعقبه تدخّل عسكري بقيادة الولايات المتحدة فيما يُعرف بحرب الخليج الأولى (1990-1991). كانت هذه الحرب بداية لتواجد عسكري غربي طويل الأمد في المنطقة، إذ ظلت القوات الأميركية وحلفاؤها في منطقة الخليج لضمان استقرار الدول المصدرة للنفط وحماية مصالحهم.

في عام 2003، شنّت الولايات المتحدة وحلفاؤها حرباً جديدة على العراق (حرب الخليج الثانية)، وذلك بهدف الإطاحة بنظام صدام حسين. هذه الحرب أدّت إلى انهيار الدولة العراقية وخلق فراغ أمني واسع، استغلته إيران لمدّ نفوذها والسيطرة الى مفاصل الحكم في العراق، أعقبه انقسام وحروب داخلية، مما مهّد الطريق لظهور تنظيمات متطرفة مثل تنظيم القاعدة ثم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في السنوات اللاحقة. كما تسبب انهيار العراق في تفاقم الصراعات الطائفية والعرقية في المنطقة، وخلق تحدّيات أمنية كبيرة، لكن العامل المفصلي في الموضوع هو انهيار البوابة الشرقية للعرب والمتمثلة بالعراق، مما سمح لإيران بتحقيق حلمه الإمبراطوري بالوصول الى مياه البحر المتوسط برضى أميركي ضمني.

في عام 2011، اندلعت سلسلة من الاحتجاجات الشعبية في عدة دول عربية، فيما عرف بالربيع العربي. كان لهذه الثورات أثر عميق على الجغرافيا السياسية للمنطقة. ففي بعض الدول، مثل تونس ومصر، أدّت هذه الانتفاضات إلى تغييرات سياسية، في حين أن دولاً أخرى مثل سوريا واليمن وليبيا غرقت في حروب أهلية مستمرة حتى اليوم.

كانت التدخلات الخارجية عاملاً حاسماً في تأجيج هذه الصراعات. في سوريا، دعمت روسيا وإيران نظام الرئيس بشار الأسد، بينما دعمت الولايات المتحدة وحلفاؤها مجموعات المعارضة المسلحة. كذلك، شهدت اليمن تدخّلاً عسكرياً بقيادة السعودية ضد الحوثيين المدعومين من إيران، مما أضاف بُعداً إقليمياً للنزاع، خاصة ان الحوثيين عملوا على التعرض للأمن القومي السعودي والعربي بتفويض من إيران ومن حزب لله.

خلال القرن الماضي، بقي الصراع الفلسطيني - الإسرائيلي محوراً رئيسياً في السياسة الإقليمية والدولية. شهد العقد الأخير تصعيدات متعددة، أبرزها حرب غزة المتكررة، التي تشهد مواجهات بين الفصائل الفلسطينية المسلحة في القطاع، خصوصاً حماس، وإسرائيل. في عام 2021، تصاعدت التوترات بشكل كبير بعد مواجهات في القدس، مما أدّى إلى اندلاع مواجهة عسكرية شديدة بين الطرفين. هذه الحرب هي جزء من سلسلة من الصراعات التي لم يتم التوصل إلى حل دائم لها، رغم الجهود الدولية.

إن الصراع الجيوسياسي في الشرق الأوسط هو نتاج لتفاعل معقّد بين العوامل المحلية والإقليمية والدولية. على مدار قرن من الزمن، ظلت المنطقة مسرحاً لصراعات مستمرة وتدخلات أجنبية، وأصبحت مركزاً رئيسياً للأزمات العالمية، وقد تكوم جغرافية المنطقة أحد العوامل الرئيسية في بقاء الشرق الأوسط ساحة صراع دائم.
+A
-A
Business Echoes

مقالات مماثلة مقالات مماثلة

أسعار النفط تترقب الصراع في الشرق الأوسط
أسعار النفط تترقب الصراع في الشرق الأوسط
02:46 ص | 2024-10-07

أسعار النفط تترقب الصراع في الشرق الأوسط

أسعار النفط ترتفع وسط اجواء الصراع في الشرق الأوسط
أسعار النفط ترتفع وسط اجواء الصراع في الشرق الأوسط
02:28 ص | 2023-10-11

أسعار النفط ترتفع وسط اجواء الصراع في الشرق الأوسط

توترات الشرق الأوسط ترفع أسعار النفط بأكثر من 1%
توترات الشرق الأوسط ترفع أسعار النفط بأكثر من 1%
03:21 ص | 2024-10-24

توترات الشرق الأوسط ترفع أسعار النفط بأكثر من 1%

أسعار العملات المشفرة تتعافى من اضطرابات التصعيد في الشرق الأوسط
أسعار العملات المشفرة تتعافى من اضطرابات التصعيد في الشرق الأوسط
04:21 ص | 2024-10-03

أسعار العملات المشفرة تتعافى من اضطرابات التصعيد في الشرق الأوسط

Business Echoes

الأكثر قراءة الأكثر قراءة

اليوم
الأسبوع
الشهر
 أسعار المازوت والبنزين تستقر عند المستويات الآتية
 أسعار المازوت والبنزين تستقر عند المستويات الآتية
منذ 23 ساعة

أسعار المازوت والبنزين تستقر عند المستويات الآتية

بشأن الاشتراكات ودفع البدلات.. إعلانان لمؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان
بشأن الاشتراكات ودفع البدلات.. إعلانان لمؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان
منذ 18 ساعة

بشأن الاشتراكات ودفع البدلات.. إعلانان لمؤسسة مياه بيروت وجبل لبنان

سعر صرف الدولار في السوق السوداء في 5 كانون الأول
سعر صرف الدولار في السوق السوداء في 5 كانون الأول
منذ 23 ساعة

سعر صرف الدولار في السوق السوداء في 5 كانون الأول

إحتياطات مصرف لبنان تُسجّل مزيداً من التراجع
إحتياطات مصرف لبنان تُسجّل مزيداً من التراجع
منذ 18 ساعة

إحتياطات مصرف لبنان تُسجّل مزيداً من التراجع

 أكثر 5 أشياء تلوثاً في غرفة الفندق
 أكثر 5 أشياء تلوثاً في غرفة الفندق
07:30 ص | 2024-12-05

أكثر 5 أشياء تلوثاً في غرفة الفندق

5 أخطاء تدمر هواتفكم مع مرور الوقت
5 أخطاء تدمر هواتفكم مع مرور الوقت
07:30 ص | 2024-12-02

5 أخطاء تدمر هواتفكم مع مرور الوقت

ما هو أفضل وقت لشراء تذاكر السفر؟
ما هو أفضل وقت لشراء تذاكر السفر؟
05:30 ص | 2024-12-02

ما هو أفضل وقت لشراء تذاكر السفر؟

وقت الرحيل.. إشارات تخبرك بأنه حان وقت ترك العمل
وقت الرحيل.. إشارات تخبرك بأنه حان وقت ترك العمل
04:00 ص | 2024-12-02

وقت الرحيل.. إشارات تخبرك بأنه حان وقت ترك العمل

 أكثر 5 أشياء تلوثاً في غرفة الفندق
 أكثر 5 أشياء تلوثاً في غرفة الفندق
07:30 ص | 2024-12-05

أكثر 5 أشياء تلوثاً في غرفة الفندق

الدقائق الأخيرة مع الهاتف.. أخطر مما تتصورون
الدقائق الأخيرة مع الهاتف.. أخطر مما تتصورون
05:30 ص | 2024-11-11

الدقائق الأخيرة مع الهاتف.. أخطر مما تتصورون

أوسخ 3 أشياء في غرفة الفندق
أوسخ 3 أشياء في غرفة الفندق
06:30 ص | 2024-11-11

أوسخ 3 أشياء في غرفة الفندق

5 أخطاء تدمر هواتفكم مع مرور الوقت
5 أخطاء تدمر هواتفكم مع مرور الوقت
07:30 ص | 2024-12-02

5 أخطاء تدمر هواتفكم مع مرور الوقت

Business Echoes

اقرأ أيضا في الضيوف اقرأ أيضا في الضيوف

احتواء إيران: نهج أميركي مستلهم من مؤتمر فيينا
احتواء إيران: نهج أميركي مستلهم من مؤتمر فيينا
Our Guest
06:04 ص | 2024-11-25

احتواء إيران: نهج أميركي مستلهم من مؤتمر فيينا

بين الديناميكية الغربية والجمود اللبناني: كيف تؤثّر الطائفية على التوجهات الانتخابية والسياسية في لبنان؟
بين الديناميكية الغربية والجمود اللبناني: كيف تؤثّر الطائفية على التوجهات الانتخابية والسياسية في لبنان؟
Our Guest
04:46 ص | 2024-11-18

بين الديناميكية الغربية والجمود اللبناني: كيف تؤثّر الطائفية على التوجهات الانتخابية والسياسية في لبنان؟

عون لبزنس إيكوز: لتعديل قانون العمل ويذكر بحرب 1975 وبأوكرانيا وإسرائيل
عون لبزنس إيكوز: لتعديل قانون العمل ويذكر بحرب 1975 وبأوكرانيا وإسرائيل
Our Guest
07:02 ص | 2024-11-10

عون لبزنس إيكوز: لتعديل قانون العمل ويذكر بحرب 1975 وبأوكرانيا وإسرائيل

إلى أن تنتهي الحرب... لنحافظ على صحتنا النفسية
إلى أن تنتهي الحرب... لنحافظ على صحتنا النفسية
Our Guest
10:34 ص | 2024-10-10

إلى أن تنتهي الحرب... لنحافظ على صحتنا النفسية

Business Echoes

آخر الأخبار آخر الأخبار

فروع BOB تبدأ بقبض الرسوم المستحقة لبلدية بيروت
منذ 16 ساعة

فروع BOB تبدأ بقبض الرسوم المستحقة لبلدية بيروت

فروع BOB تبدأ بقبض الرسوم المستحقة لبلدية بيروت
منذ 16 ساعة

فروع BOB تبدأ بقبض الرسوم المستحقة لبلدية بيروت

 بنك لبنان والمهجر يكشف عن نتائجه الماليّة خلال أول 9 أشهر من 2024
منذ 17 ساعة

بنك لبنان والمهجر يكشف عن نتائجه الماليّة خلال أول 9 أشهر من 2024

 بنك لبنان والمهجر يكشف عن نتائجه الماليّة خلال أول 9 أشهر من 2024
منذ 17 ساعة

بنك لبنان والمهجر يكشف عن نتائجه الماليّة خلال أول 9 أشهر من 2024

إحتياطات مصرف لبنان تُسجّل مزيداً من التراجع
منذ 18 ساعة

إحتياطات مصرف لبنان تُسجّل مزيداً من التراجع

إحتياطات مصرف لبنان تُسجّل مزيداً من التراجع
منذ 18 ساعة

إحتياطات مصرف لبنان تُسجّل مزيداً من التراجع

يستخدم الموقع ملفات تعريف الارتباط لتحسين تجربتك. سنفترض أنك موافق على هذا ، ولكن يمكنك إلغاء الاشتراك إذا كنت ترغب في ذلك.
موافق