سوليكا علاء الدين
قُرعت طبول الحرب بين روسيا وأوكرانيا ومعها دُقّت نواقيس الخطر في لبنان محذّرة من كارثة اجتماعيّة ومعيشيّة عنوانها العريض "الأمن الغذائي". فالحرب المستعرّة وإن كانت بعيدة جغرافيّاً إلّا أنّ صدى ويلاتها ومصائبها هو الأقرب والأشدّ لدى اللبنانييّن الذين يدفعون ثمن صراعات وحروب الكبار بصورة مباشرة أو غير مباشرة، حيث استفاقوا على نقص في مخزون القمح وشحّ في مواد المحروقات وقفزات دولاريّة وتحليق جنوني للأسعار، لتعود طوابير الانتظار إلى الواجهة من جديد مع عودة تجّار الأزمة إلى ممارسة عمليّات الاحتكار والتخزين والابتزاز بلا حسيب أو رقيب.
فمنذ اندلاع الحرب، وحالات الهلع والخوف من نقص سلاسل إمداد القمح تتفاقم وتسيطر على شعوب الدول الفقيرة مع ارتفاع وتيرة أسعاره واستمرار تصاعد سعر برميل النفط عالميّاً وانعكاسه على تكلفة الإنتاج والإستيراد والتصدير. إذ تعتبر روسيّا أكبر مصدّر للقمح في العالم، في حين تقع أوكرانيا ضمن الدول الخمسة الأولى وتُشكّل وحدها حوالي الـ 12 في المئة من صادرات القمح ويستحوذان معاً على30 في المئة من إمدادات القمح على المستوى العالمي (أي ما يقارب الـ55 مليون طن). ما يعني أنّ الحرب سوف تلقي بأعبائها الثقيلة على كلّ الدول التي تقوم باستيراد القمح من بلديّ النزاع خاصّة الدول العربيّة وفي مقدّمتها لبنان الذي ينال حصّة الأسد من كلّ الأزمات والحروب.
بالأرقام، يستورد لبنان 80 في المئة من حاجاته الاستهلاكية من القمح الأوكراني، بحيث بلغ الاستيراد عام 2020 أكثر من 630 ألف طن بقيمة 133 مليون دولار مقارنة بـ 535 ألف طن من العام 2019؛ في حين توزّعت كميّة الواردات المتبقّية بين روسيا (15 في المئة) ودول أخرى (5 في المئة). هذا بالإضافة إلى استيراد شتّى أنواع الحبوب والحديد والصّلب والزيوت والحيوانات الحية وغيرها... ومع ذلك، سجّلت قيمة الواردات اللبنانية من أوكرانيا عام 2020 نحو 271 مليون دولار في تراجع بلغ حوالي نصف مليار دولار عن الأعوام السابقة، لا سيّما في العامين 2013 و2017.
وكأنّ هذا البلد لا يكفيه الدمار الهائل الذي أصاب صوامع الاهراءات في انفجار الرابع من آب عام 2020 وخسارته كامل احتياطي القمح وحرمانه من مساحة تخزين شاسعة كانت تستوعب حوالي الـ120 ألف طن وتغطّي حاجة البلاد لمدّة 6 أشهر، حتّى جاءت الحرب لتزيد الطين بلّة، وتعالت معها الأصوات المحذّرة من النقص الحاد في احتياطي القمح. وعلى الرّغم من الدعوات الرسميّة المطمئنة بأنّ المخزون يكفي ما يقارب الشهر ونصف أو حتى الشهرين وأنّه لا يوجد أيّ شحّ أو انقطاع للقمح أو للمواد الغذائية الأساسية، وبالتالي لا داعي للاستنفار والخوف لأنّ هناك كميّات كافية وفي حال حدوث أي نقص، فإنّ البدائل الأخرى متوفّرة؛ إلاّ أنّ هذه التطمينات سرعان ما ترتطم في كيفيّة تأمين وتموين وتمويل عمليّات استيراد القمح مع ما يواجهه لبنان من حالة إفلاس وعجز نتيجة أقسى أزمة اقتصاديّة وماليّة ومعيشيّة. فهل يا ترى من داع لأيّ هلع؟
وكما هي الحال في جميع الأزمات، فإنّ أوّل المستفيدين والرابحين هم التجار الذين لا يتوانوا عن إظهار سوء نواياهم ومخطّطاتهم وكأنّ الحرب أفرجت مجدّداً عن ألاعيبهم الدنيئة ومنحتهم فرصة أخرى لاستغلال حالة البلبلة السائدة وإخفاء سلعة حيويّة واستراتيجيّة مثل القمح وبعض المواد الغذائية من الأسواق والامتناع عن تسليم الطحين ومواد المحروقات من أجل احتكارها وإعادة بيعها بأسعار خياليّة وجني أرباح غير مشروعة من جيوب المواطنين الذين يقعون دائما فريسة طمعهم وقلّة ضميرهم. فتجّار الأزمة لا يشبعون ولا يُراقبون ولا يُعاقبون، بل يتمادون في النهب والسرقة والفساد في ظلّ غياب تام للسّلطة وانعدام المحاسبة والرقابة.
إذاَ، تأتي الحرب اليوم في توقيت خاطئ وموجع للبنان، وها هي تهدّد بكافّة مآسيها وتداعياتها رغيف خبز اللبنانيين الذي يعتبر مدماك قوتهم اليومي وتزيد من حدّة استنزافهم وتزعزع أمنهم الغذائي، لتفتح بذلك الباب أمام حرب ضروس ضد الجوع لا تقلّ خطورتها عن أيّ حرب عسكريّة. فلبنان الذي بات أكثر من 80 في المئة من شعبه يئنّ تحت خطّ الفقر لا يملك ترف الوقت للانتظار أو المتابعة عن بعد. فالحرب لا ترحم والجوع لا يُحتمل، وعلى جميع مكوّنات السلطة أن تتحمّل مسؤوليّاتها وأن تسعى جاهدة إلى استباق وقوع الكارثة وإيجاد الخطط والحلول البديلة من أجل طمأنة المواطن بأنّ أمنه الغذائي مَحميّ ومُصان من حرب الكبار وجشع التجار الذين يزيدون الأزمة تعقيداً وشراسةَ.
نذكركم انه بات بإمكانكم متابعة صفحة موقع Business Echoes على إنستغرام من خلال الضغط هنا والتي سيكون محتواها مختلفاً عن المحتوى الذي ننشره على صفحة فايسبوك.