سوليكا علاء الدين
دخلت الليرة اللبنانية نفقاً هو الأطول والأكثر سواداً في تاريخها بعد أعوام من الاستقرار المصطنع في النظام النقدي والسعي الدائم للحفاظ على سعر ثابت للصّرف الرّسمي والإصرار المتعمّد على تجاهل كل التقارير الاقتصادية الدولية التي كانت تحذر بشدّة من خطر انهيار الليرة. فكان عام 2019 بداية مسلسل الانهيار لتتوالى فصوله المأساوية يوماً بعد يوم حيث تواصل العملة الوطنية هبوطها القياسي والمدوّي أمام الدولار بعد أن خسرت أكثر من 95 في المئة من قيمتها على وقع أسوأ انهيار اقتصادي واجتماعي يمرّ به لبنان.
ومع استمرار الأزمة، يتّضح أن لا شيء حتى الآن قادر على لجم سعر صرف الدولار حتى تأليف الحكومة الجديدة الذي أنهى باكراً مفعول جرعتها المخدّرة. فبعد انخفاض وهمي، عاود سعر صرف الدولار تحليقه بشكل جنوني متخطياً حاجز الـ 20 ألف ليرة للدولار الواحد في الوقت الذي يتحضر فيه لبنان رسميّاً للجلوس إلى طاولة المفاوضات مع صندوق النقد الدولي بعد 17 جولة سابقة من المحادثات المتعثرة كانت نتيجتها عدم الوصول إلى اتفاق وتعليق التفاوض ليتفاقم حجم كرة الأزمة التي تتدحرج سريعاً نحو مستويات متدنيّة.
لم يعد خافياً على أحد بأنّ حلّ الأزمة الاقتصادية والنقدية والمالية يتطلّب الإسراع بتفاوض واضح ومسؤول مع صندوق النقد الدولي الذي حدد عدّة أولويات أساسيّة من شأنها أن تشكل أركاناً للتعامل المستقبلي وإطاراً للتفاوض معه أهمها توحيد سعر الصرف المتعدّد واعتماد نظام نقدي موثوق كبند رئيسي على جدول أعمال المفاوضات، إذ إن سياسة التعدّدية التي يشهدها لبنان اليوم عمقت من التشوهات الاقتصادية وأغرقت القطاع المالي والنقدي والمصرفي في خسائر فادحة وساهمت في تدهور العملة الوطنية وخسارة المزيد من قيمتها وفقدان الثقة للتداول فيها، الأمر الذي زاد من حدّة معاناة ومآسي اللبنانيين الذين تبخّرت أموالهم وتلاشت قدراتهم الشرائية.
في المقابل، غابت كل المحاولات الجادّة لوقف التقلبات والانتهاكات بحق الليرة وانعدمت آليات ضبط سوق سعر الصرف وفشل المسؤولون في القضاء على المنصات غير الشرعية ومنع عمليات المضاربة ومعاقبة المتلاعبين بالسوق وبمصير العملة لتدفع الليرة اللبنانية ثمن هذا الانفلات وتكون رهينة هذه التعددية التي تتنوّع بين "سعر الصرف النظامي" أو ما يعرف بسعر الصرف الرسمي لليرة اللبنانية المعتمد من قبل المصرف المركزي في تداولاته عند 1,515 ليرة مقابل الدولار وأسعار الصرف الناجمة عن تعاميم مصرف لبنان لا سيما التعميم 151 الذي يتعلق بسحوبات الودائع الدولارية على سعر صرف بقيمة 3900 ليرة، والتعميم 158 الذي يسمح بسحب 400 دولار أميركي بالليرة اللبنانية شهرياً على سعر 12 ألف ليرة، بحيث خسر بموجبهما المودعون الكثير من قيمة ودائعهم. هذا فضلاً عن سعر صرف منصة صيرفة التابعة لمصرف لبنان، وسعر صرف السوق الموازية أي السوق السوداء الذي يتحكم به مجموعة من الصرافين والمنصّات غير الرسمية ويتم اعتماده في أغلب المعاملات والنشاطات التجارية.
من الواضح أن البقاء على هذا النهج النقدي المتّبع لا يصبّ في صالح وضع الليرة المتأزم بل يزيد من وتيرة الانهيار والتردّي الاقتصادي. لذلك، يأتي توحيد سعر الصرف كمطلب أساسي لصندوق النقد الدولي الذي يشترط إدخاله ضمن خطة التعافي الاقتصادي ويبدو أن الحكومة لا تملك خياراً سوى القبول به، بعد أن ولّى زمن تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانية مقابل الدولار، ليُصبح أمراً لا مفر منه بحيث يتّجه المسار إلى تعويم سعر الصرف وتحريره بشكل كامل من أي تدخلات حكومية أو مصرفية على أن يبقى تحديد قيمة الليرة وفق سوق العرض والطلب عبر توحيد تدريجي من أجل الوصول إلى سوق حقيقي بسعر موحّد وليس البقاء في سوق افتراضي بأرقام وهميّة.
ومع عدم قدرة أي طرف حتى الساعة على تحديد سعر الصرف الموحّد الذي سيتم إعتماده، إلا ان أغلب التحليلات المحلية وحتى العالمية تقول انه سيتراوح بين 8000 و12000 ليرة.
وعلى الرغم من أن الهدف من توحيد سعر الصرف هو التخلص من شوائب التعددية والنهوض بالليرة اللبنانية من أجل السير قدماً في مسار التعافي الاقتصادي وإعادة ضخّ التدفقات والسيولة المالية واكتساب الثقة في الاقتصاد اللبناني، إلاّ أن تنفيذ هذه المهمّة سيكون شاقاً وسيتخلّله الكثير من المطبات نظراً لتعدّد واختلاف الأطراف المستفيدة والمتضرّرة من عمليّة التوحيد. كما أنه يتطلّب عدم هدر الوقت والالتزام بوضع استراتيجيات فعّالة وخطط إنقاذ اقتصادية ومالية ونقدية واضحة لمواجهة كل الصعوبات والتداعيات السلبية الناجمة عنه، بالتوازي مع تأمين وحماية الأمن الاجتماعي للمواطن اللبناني كي لا يكون المتضرر الأكبر من وطأة هذا القرار لا سيما أنه لم يعد قادراً على تحمّل المزيد من التدهور والقهر والحرمان.
نذكركم انه بات بإمكانكم متابعة صفحة موقع Business Echoes على إنستغرام من خلال الضغط هنا والتي سيكون محتواها مختلفاً عن المحتوى الذي ننشره على صفحة فايسبوك.