سوليكا علاء الدين
مع تعاظم الأزمة في لبنان وتفاقم الشعور باليأس والإحباط، تتجدد مواسم هجرة اللبنانيين من أرض الوطن بشكل دراماتيكي للبحث عن لقمة عيش رغيدة وحياة كريمة في غربة قاسية بعد أن فقدوا الأمل في الحصول عليها في ربوع وطنهم الأم. مأساة الهجرة ليست بواقع جديد، إذ لطالما شهد لبنان موجات متعددة وبوتيرة تصاعدية نتيجة الحروب والصراعات وتردي الأوضاع الإقتصادية والسياسية حتى أصبحت الهجرة حلم كل لبناني للنجاة والبقاء على قيد الحياة.
أرقام المهاجرين مخيفة وفق ما يسجله عدّاد الهجرة خاصة بين أصحاب الكفاءات والأدمغة، حيث تشير إحصاءات الأمن العام إلى ارتفاع ملحوظ في إصدارات جوازات السفر منذ بداية عام 2021 وحتى نهاية شهر آب الماضي بنحو 260 ألف جواز سفر، مقارنة مع نحو 142 ألف جواز في الفترة نفسها من العام 2020 أي بزيادة نسبتها 82 في المئة، مع الإشارة إلى أن الجوازات المصدرة هي من الفئات الأطول زمناً أي من فئة الخمس و العشر سنوات، الأمر الذي يدل على رغبة اللبنانيين في الهجرة وعدم العودة في المدى القريب.
من جهة أخرى، يشير "مرصد الأزمة" التابع للجامعة الأميركية في بيروت في تقريره "موجة الهجرة الثالثة"، إلى أن لبنان دخل في بداية موجة هجرة جماعية (Exodus) هي الثالثة بعد الموجة الكبيرة الأولى التي امتدت من أواخر القرن التاسع عشر حتى فترة الحرب العالمية الأولى (١٨٦٥ - ١٩١٦) حيث يقدّر أن ٣٣٠ ألف شخص هاجر من جبل لبنان آنذاك، في حين أن الموجة الكبيرة الثانية كانت أثناء الحرب الأهلية اللبنانية (١٩٧٥ - ١٩٩٠) حيث يقدر الباحث بول طبر أعداد المهاجرين في تلك الفترة بحوالي ٩٩٠ ألف شخص.
هذا ويلقي المرصد الضوء على ثلاث مؤشرات مقلقة لها علاقة بدخول لبنان في موجة الهجرة الجماعية والتي من المتوقع أن تمتد لسنوات.
يتعلق المؤشر الأول في ارتفاع فرص الهجرة عند الشباب اللبناني، حيث أشار ٧٧ في المئة منهم أنهم يفكرون بالهجرة ويسعون إليها وهي النسبة الأعلى بين كل البلدان العربية حسب تقرير "استطلاع رأي الشباب العربي" الصادر العام الماضي.
وتأتي هذه النسبة نتيجة انحسار فرص العمل الكريم حيث يقدّر البنك الدولي أن شخصاً من كل خمسة فقد وظيفته منذ خريف الـ ٢٠١٩ وأن ٦١ من الشركات في لبنان قلصت موظفيها الثابتين بمعدل ٤٣ في المئة.
ويتمثل المؤشر الثاني في الهجرة الكثيفة للمتخصصين والمهنيين خاصة من العاملين والعاملات في القطاع الصحي كأطباء وممرضين، وفي القطاع التعليمي من أساتذة جامعيين ومدرسيين بحثاً عن ظروف عمل ودخل أفضل.
أما المؤشر الثالث فيعتمد على توقع طول أمد الأزمة اللبنانية لا سيما بعد أن قدّر البنك الدولي حاجة لبنان إلى ١٢ عاماً بأحسن الأحوال كي يعود إلى مستويات الناتج المحلي التي كانت في عام ٢٠١٧ وإلى ١٩ عاماً بأسوأ الأحوال. هذا إذا ما أضيف الحاجة المتزايدة إلى يد عاملة وأصحاب اختصاص وفئات شابة في عدد كبير من الدول الأكثر تقدماً في العالم التي تشهد انخفاضاً في معدلات النمو السكاني وزيادة في نسبة المسنين، فمن الممكن توقع موجة كبيرة من هجرة اللبنانيين خلال الأعوام المقبلة في ظل غياب أي قرار سياسي بمقاربة جدية للأزمة مما يوحي بنية واضحة لتدمير ممنهج للبلد ورأسماله البشري.
في ظل الواقع الجحيمي المفروض على اللبنانيين الذي أفقدهم مصدر رزقهم وأبسط حقوقهم في الحصول على الحد الأدنى من كل مقومات الحياة الأساسية، أصبح خيار الهجرة شبكة الخلاص الوحيدة من رحلة الذل والعذابات اليومية التي لم تبقي أمامهم سوى خيار الهروب من هذا الواقع في وطن بات منفىً للأمان والأحلام والآمال. فمشهد طوابير المهاجرين الأليمة في المطار تزداد يوماً بعد يوم منذرة بواقع خطير وبعواقب كارثية، لما لهذا النزف الحاد في الكفاءات والأدمغة تكلفة باهظة الثمن لا يمكن تعويضها، فهي ليست مادية أو مالية، إنما خسارة لخيرة الشباب والشابات ولمدماك الوطن وأمل المستقبل. ولو أن أبواب الهجرة متاحة بشكل أسهل أمام اللبنانيين لشهدنا بالتأكيد زحفاً جماعياً إلى الخارج، فلمصلحة من يتم إفراغ لبنان من ثروته وتهجير شعبه وتهديم مجتمعه؟؟
نذكركم انه بات بإمكانكم متابعة صفحة موقع Business Echoes على إنستغرام من خلال الضغط هنا والتي سيكون محتواها مختلفاً عن المحتوى الذي ننشره على صفحة فايسبوك.