يشهد زوج اليورو/الدولار الأمريكي مرحلة حساسة تتقاطع فيها عوامل اقتصادية وسياسية متعددة، تعكس صورة مشوشة لآفاق العملة الأوروبية الموحدة أمام نظيرتها الأمريكية. فبينما يحاول اليورو التشبث بمستويات دعم حرجة قرب 1.1550–1.1600، تتوالى إشارات الضعف من الاقتصاد الأوروبي، خصوصًا مع تسارع معدلات التضخم في ألمانيا وتراجع شهية المستثمرين للمخاطرة في ظل بيئة عالمية مضطربة. وفي المقابل، تبدو الأسواق الأمريكية عالقة في حالة ترقب، بانتظار تلميحات جديدة من الاحتياطي الفيدرالي حول مسار السياسة النقدية المقبلة. وهذه العوامل مجتمعة تجعل من حركة الزوج الحالية أكثر تعقيدًا، وتدفع إلى التساؤل حول الاتجاه القادم: هل يواصل اليورو الانحدار، أم أن الوقت قد حان لتصحيح صعودي محدود؟
برأيي ، ما يعقد المشهد أكثر هو المزاج العام المتسم بتجنب المخاطرة، والذي بات السمة الأبرز للأسواق منذ عودة التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين إلى الواجهة. فقد تراجعت شهية المستثمرين للأصول ذات العائد المرتفع، واتجهت السيولة نحو الملاذات الآمنة مثل الدولار الأمريكي والين الياباني. وهذا السلوك الدفاعي يضعف اليورو تلقائيًا، خاصة أنه يُعد عملة "تمويل" في فترات الركود والمخاطر. ورغم بعض محاولات التعافي الطفيفة خلال الجلسات الآسيوية والأوروبية الأخيرة، إلا أن الزخم الصعودي ظل محدودًا، مما يعكس هشاشة الثقة في قدرة العملة الأوروبية على الارتداد المستدام في المدى القصير.
كما، جاءت بيانات التضخم الألماني لتزيد الصورة ضبابية بدلًا من أن توفر دعمًا واضحًا لليورو. إذ أظهرت القراءة النهائية لمؤشر أسعار المستهلكين ارتفاعًا إلى 2.4% في سبتمبر مقارنة بـ2.2% في أغسطس، وهي نسبة تبدو مرتفعة تاريخيًا لكنها لا تُترجم بالضرورة إلى تفاؤل نقدي. فالتضخم هنا ليس مدفوعًا بقوة الطلب الداخلي أو بنشاط اقتصادي متجدد، بل بعوامل تكلفة مثل أسعار الطاقة والسلع، وهو ما يجعل استجابة البنك المركزي الأوروبي أكثر حذرًا. ولا يبدو أن البنك مستعد لتشديد السياسة النقدية في بيئة تتسم بضعف النمو وتراجع الإنتاج الصناعي، مما يترك اليورو مكشوفًا أمام ضغوط بيعية مستمرة.
وفي المقابل، يواجه الدولار الأمريكي هو الآخر تحديات داخلية. فاستمرار الإغلاق الحكومي الجزئي وغياب البيانات الاقتصادية الرسمية يخلقان فراغًا في الرؤية التحليلية، ولكن هذا لم يمنع العملة الأمريكية من الاحتفاظ بزخمها النسبي كملاذ آمن. فالأسواق ما زالت تراهن بنسبة تقارب 90% على أن الفيدرالي سيخفض أسعار الفائدة مرتين إضافيتين قبل نهاية العام، مدفوعًا بتراجع النشاط الصناعي والمخاوف من تباطؤ سوق العمل. ومع ذلك، فإن هذه التوقعات لم تضعف الدولار، لأن السياسة النقدية الأمريكية – حتى في حال التيسير – ما تزال أكثر تشددًا نسبيًا من نظيرتها الأوروبية، وهو عامل يمنح العملة الخضراء ميزة تنافسية في مواجهة اليورو.
أيضاً التوترات الجيوسياسية تضيف طبقة أخرى من التعقيد. فالتصعيد الجديد في الرسوم التجارية بين واشنطن وبكين يهدد سلاسل الإمداد العالمية ويزيد الضغط على الاقتصادات المصدّرة في منطقة اليورو، وخاصة ألمانيا، التي تعتمد بشكل كبير على قطاع التصنيع. وفي الوقت ذاته، تساهم الاضطرابات السياسية داخل الاتحاد الأوروبي، من فرنسا إلى إيطاليا، في تقويض الثقة باليورو كعملة مستقرة. وتعيين الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لحكومة جديدة لم ينجح في تهدئة المعارضة، فيما تتزايد الدعوات داخل البرلمان لسحب الثقة، وهو ما يضيف عنصر عدم يقين سياسي في قلب أوروبا. وهذه المعطيات تجعل من الصعب تخيّل انتعاش قوي لليورو قبل أن تستقر الأوضاع السياسية والاقتصادية على حد سواء.
كما تشير تحركات السعر إلى أن مستوى 1.1550 يمثل دعمًا محورياً في الوقت الراهن، فيما تُعد منطقة 1.1600–1.1650 حاجز مقاومة رئيسيًا يمنع أي صعود مستدام. وكسر الدعم الحالي قد يدعم هبوط أعمق نحو 1.1450، خاصة إذا جاءت تصريحات رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول بنبرة أقل ميلاً للتيسير مما تتوقعه الأسواق. أما في حال شهدنا تحسنًا طفيفًا في بيانات الثقة الاقتصادية الألمانية(ZEW) أو مؤشرات النشاط الصناعي، فقد نرى محاولة تصحيح نحو 1.17، لكن هذا السيناريو يظل ضعيف الاحتمال في ضوء ضعف الأساسيات.
ومن وجهة نظري، يبدو أن الاتجاه العام لزوج اليورو/الدولار ما زال هبوطيًا على المدى المتوسط، مع احتمالات محدودة للتعافي قبل نهاية العام. فالمزيج الحالي من التضخم غير المستقر، والتوترات التجارية، والسياسة النقدية المتباينة، يجعل من الصعب على العملة الأوروبية استعادة جاذبيتها الاستثمارية. وحتى لو قرر الفيدرالي خفض أسعار الفائدة مجددًا، فإن الفارق في العائد بين الأصول الأمريكية والأوروبية سيظل في صالح الدولار. مما قد يغير المعادلة فعلًا هو تحسن واضح في مؤشرات النمو داخل منطقة اليورو أو تهدئة جذرية في العلاقات التجارية العالمية، وهذان عاملان لا يبدوان وشيكين في الأفق.
وختامًا، يمكن القول إن ضبابية التضخم في ألمانيا وهدوء الأسواق العالمية ليسا علامتين على استقرار مقبل، بل على حالة ترقب قلقة تسبق تحركات أوسع. والأسواق تميل في هذه المرحلة إلى التمسك بالمراكز الدفاعية، ما يعني أن أي ارتفاع لليورو سيكون مؤقتًا ومحدودًا بنطاق ضيق. والاتجاه العام لا يزال نحو مزيد من الضعف التدريجي، مع احتمالات أن يختبر الزوج مستويات أقل من 1.15 خلال الأسابيع المقبلة إذا لم تظهر بيانات أوروبية إيجابية تقلب المعادلة. وفي بيئة كهذه، سيبقى السؤال الأكثر إلحاحًا ليس ما إذا كان اليورو سيتراجع، بل إلى أي مدى يمكن أن يصمد قبل أن يواجه موجة جديدة من الضغوط الهيكلية التي تعكس أزمة ثقة أعمق في الاقتصاد الأوروبي ككل.
كُتب بواسطة: رانيا جول ، كبير محللي الأسواق في XS.com- منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا (MENA)