وكأن الأزمة السياسة التي يعاني منها لبنان غير كافية لتراجع الثقة به محلياً وخارجياً، فأتت أزمة الدولار وألقت بثقلها على ما تبقى من قدرة هذا البلد على تحمل ومواجهة التحديات الاقتصادية التي تتخذ منحاً تصاعدياً يوماً بعد يوم.
بداية أزمة العملة الخضراء
بدأت هذه الأزمة تلوح بالأفق مطلع حزيران يونيو الماضي عندما زاد الطلب على العملة الصعبة، ما أدى إلى ارتفاع في سعر صرف الليرة في السوق السوداء من 1507 إلى 1600 ليرة مقابل الدولار.
هذا الطلب الغير مسبوق على الدولار تمحورت أسبابه المعلنة حول محاولات تهريبه من لبنان إلى سوريا، والقيام بعمليات سحب غير مسبوقة من الصراف الآلي ATM من دون تحديد وجهة تحويلها، وإن أشار البعض إلى تحويلها إلى الصرافين وبيعها بسعر أعلى من سعر صرف الليرة المثبت من قبل المصرف المركزي والتي أدت إلى ما أدت إليه من مضاربات ومحاولات استغلال.
وقد سببت هذه الفوضى النقدية حالة من الارباك لدى المواطنين الذين تهافتوا على طلب الدولار النقدي، والذي يقدر بين 1.8 و2 مليار دولار مخبأة في المنازل تحسباً من مزيد من التدهور في العملة الوطنية.
تعميم مصرف لبنان / تعميم الخمسة شروط
عبر مصرف لبنان على لسان حاكمه رياض سلامة مراراً وتكراراً عن عدم خشيته من نفاذ السيولة من العملة الأجنبية، لا سيما وأن المصرف لديه ما يفوق الـ 60 مليار دولار كاحتياطي، محاولاً في كل مرة نشر جو من التفاؤل للتخفيف من هول الأزمة التي لمح بعض الخبراء الاقتصاديين والسياسيين على أنها أزمة مفتعلة تقع ضمن مخطط كبير يستهدف كلاً من حاكم مصرف لبنان والواقع المالي من أجل دفع المودعين إلى سحب ودائعهم وتخزينها في المنازل أو ترحيلها الى الخارج.
لم ينتظر مصرف لبنان كثيرا لإصدار تعميمه المكون من خمسة بنود بشأن الدولار إلى المصارف يتعلق بتعديل القرار الأساسي رقم 7144 بشأن الاعتمادات والبوالص المستندية. فقد أجاز التعميم للمصارف فتح اعتمادات لديه مخصصة حصراً لاستيراد النفط (التي تبلغ 2 مليار دولار تقريباً) أو القمح (كلفته مليار دولار تقريباً) أو الأدوية (1.3 مليار دولار تقريباً)، وإيداع 15 % من قيمة الاعتماد بالدولار، و100% من قيمته بالليرة لتحويلها إلى دولار مقابل عمولة قدرها 0.5% عن كل عملية.
وكان قد سبق تعميم المصرف تعميماً من جمعية المصارف طلبت فيه منها بناء على "تمن" من حاكم مصرف لبنان التعاون مع صغار المقترضين بالعملات (Retail Loans) لتسوية قروضهم بالليرة اللبنانية إذا ما كانت مداخيلهم بالليرة.
وبحسب الخبراء الاقتصاديين، فإن لهذا التعميم عدة جوانب إيجابية، لجهة ضبط ارتفاع سعر صرف الليرة لدى الصرافين، وبالتالي تخفيض الضغط على الحصول على الدولار. هذا فضلاً عن محاربة التهرب الضريبي من قبل شركات لا تصرح عن استعمالها الدولار النقدي.....
أزمة محروقات وصيرفة وأفران تلوح في الأفق مجدداً
إلا أن التعميم الذي أصدره المصرف وإن خفف لحظة إصداره من حدة الطلب على الدولار وخفض مستويات سعر صرف الليرة اللبنانية، يبدو أنه لن يكتب له الصمود طويلاً، لا سيما بعد أن أعلن ممثل شركات موزعي المحروقات أن هذا التعميم يتضمن شوائب موصفاً إصداره بأنه كوضع العصي بالدواليب، لا سيما وأن محطات الوقود اللبنانية تستخدم العملات المحلية في بيع المنتوجات النفطية، إلا أنها تشتري إمداداتها بالدولار الأميركي.
وهذا ما عكسه اجتماع الجمعية العمومية لأصحاب المحطات التي دعت إلى الإضراب يوم الاثنين، ما لم تسفر الاتصالات الجارية عن حلول ترضي العاملين في القطاع وضرورة التسعير بالليرة من الشركات ومنشآت النفط التابعة للدولة بعد وضع المصارف التجارية شروطاً تعجيزية بعد التعميم الذي أصدره مصرف لبنان، مع إعطء مهلة 48 ساعة.
من جهتها، رفضت نقابة الصرافين ما تتعرض له من غبن وإجحاف في حق الصرافين، وأعلنت نيتها توقف كامل قطاع الصرافة عن العمل وصولا إلى إقفال محالها إذا إستمر تجاهل حقيقة نشاطها القانوني وإتهامها المجحف، الأمر الذي ينعكس سلبا على أعمال المواطنين ومصالحهم، وبالتالي على الحركة الإقتصادية في البلد عموما، حسبما جاء في بيانها.
وقد أتى هذا البيان بعد يوم واحد فقط من حديث سلامة عن استغلال البعض للوضع واستخدم أجهزة الصراف الآلي لسحب مبالغ بالدولار وتقييدها في حسابه بالليرة، ثم بيعها لدى الصيارفة لتحقيق الربح، وإيداع المبلغ بالليرة من جديد في الـATM . وعندما رصد المصرف المركزي وجمعية مصارف لبنان هذه الظاهرة وتكاثرها، وافق مصرف لبنان على طلب المصارف اعتماد مبدأ السحب بالدولار لمن كان حسابه بالدولار، والسحب بالليرة لمن كان حسابه بالليرة.
كذلك، حذر رئيس اتحاد نقابات المخابر والأفران من أن أصحاب الأفران قد يتوقفون عن العمل قسريًا وليس بإرادتهم، بفعل الأزمة التي يمر بها القطاع بسبب الوضع الاقتصادي في البلاد، مشيراً إلى إن الأفران تبيع الخبز ومشتقاته بالليرة اللبنانية، وتسدد ثمن المواد الأولية بالدولار الأميركي، وهي تتكبد خسائر كبيرة بسبب فقدان العملة الأميركية من الأسواق.
ماذا بعد؟
من الواضح أن أصحاب المحطات ونقابة الصرافين والأفران لم يقبلوا بتعميم مصرف لبنان، وأن الصدمة الإيجابية التي رافقت عملية الإصدار، كسرتها حرب استنزاف عبر بيان من هنا وبيان من هناك واجتماع هنا واجتماع من هناك تهدف من خلالها هذه الأقطاب الثلاثة إلى وضع المزيد من الضغوطات التي لن تظهر تداعياتها على الأرض إلا مع حلول الأسبوع القادم التي يبدو أنها ستكون ساعة الصفر ما لم يتم إيجاد حلول ترضي هذه الأطراف.
ومما لا شك فيه أن هذه المستجدات المتسارعة التي رافقت إصدار التعميم ستزيد الطين بلة وستربك المواطن اللبناني الذي يقف عاجزاً أمام هشاشة الوضع المالي، وستضع المصرف المركزي أمام مسؤولية جديدة لا يقل أهمية عن مسؤولية السلطة التنفيذية التي أصبح ملحاً أكثر من أي وقت مضى على ضرورة التحرك واتخاذ إجراءات تحد من عواقب هذه الأزمة والقيام بإصلاحات أصبحت إلزامية وليست خيارية تبدأ بإعادة هيكلة القطاع العام والخصخصة، الحد من عمليات التهريب والانفلات عبر المعابر الغير شرعية، وإلى إحداث صدمة إيجابية على المدى القصير من أجل استعادة ثقة المواطن والمستثمر.
ما بين السطور أسئلة كثيرة مشروعة
-
هل يرضخ مصرف لبنان للضغوطات التي تمارس عليه كي يضغط بدوره على المصارف التجارية من أجل التخفيف من حدة شروطها؟
-
إلى متى سيبقى مصرف لبنان قادراً على تلبية حاجات الاقتصاد، وهل يجوز أن نحمله تلكأ السلطة السياسية؟
-
هل من مؤامرة داخلية تحاك ضد حاكم مصرف لبنان من أجل الإطاحة به عبر المساس بالليرة؟
-
لماذا لم تخف وتيرة السجالات السياسية، وما الذي يعيق تطبيق مقررات بعبدا الاقتصادية؟
-
هل يجب إعادة النظر في السياسة النقدية انسجاماً مع السياسات الاقتصادية والمالية؟
-
هل التقلبات في سعر صرف العملة هي محض نتيجة تلاعب دولي وحرب اقتصادية تشن على لبنان من أجل الضغط عليه سياسياً؟ وإن صح هذا التساول، هل لدى لبنان القدرة على التصدي لهذه التقلبات في المدى القصير؟
بقلم هدى علاء الدين
إن الآراء الواردة في هذا المقال، تعبر عن وجهة نظر صاحبها فقط.